نحو عولمة مختلفة: خريطة التجارة العالمية تُرسَم من جديد
الكاتب:
{pubdate}
– في خضم الجدل الدائر حول مستقبل النظام العالمي، ووسط ضجيج الحروب التجارية وشبح الرسوم الجمركية الذي يخيم على الاقتصاد، تتعالى أصوات تنادي بأن جائحة كورونا قد دقت المسمار الأخير في نعش العولمة.
– لكن تكشف نظرة تحليلية أكثر عمقاً عن حقيقة مغايرة: فالعولمة ليست في طور الأفول، بل تمر بمرحلة نضوج حاسمة تعيد تشكيل وجه العالم، وتتخلى عن ردائها القديم لترتدي حُلةً جديدة أكثر مرونة واستدامة.
نهاية حقبة أم فجر جديد؟
– تبدو السردية السائدة عن “انهيار العولمة” مقنعة للوهلة الأولى، إذ تغذيها الرسوم الجمركية الأمريكية التي بلغت مستويات غير مسبوقة، وتداعيات الجائحة التي فضحت هشاشة سلاسل الإمداد العالمية.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
– ولّت أيام التجارة المنطلقة بلا قيود، تلك الحقبة الذهبية التي أعقبت سقوط جدار برلين وانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، مدفوعة بشهية استهلاكية أمريكية لا حدود لها، وهي الحقبة التي أنتجت ترابطاً مفرطاً واعتمادية محفوفة بالمخاطر.
– بيد أن ما نشهده اليوم ليس انهياراً، بل هو تحول نحو نموذج أكثر ذكاءً ودقة. فقوى السوق الجوهرية لا تزال نابضة بالحياة؛ فالمستهلكون حول العالم ما فتئوا يطالبون بخيارات أوسع وأسعار تنافسية، والشركات لا تزال تسعى جاهدة لتعزيز كفاءتها وخفض تكاليفها.
– تضمن هذه الديناميكية الأصيلة بقاء التجارة شرياناً رئيسياً للازدهار العالمي، حتى وإن تباطأت وتيرتها مقارنة بالعقود الماضية.
الجائحة: اختبار كشف العيوب وحفّز التغيير
– شكّلت جائحة كوفيد-19 اختبار ضغطٍ قاسياً وضع التجارة العالمية تحت المجهر. فمن جهة، أبدت الشبكة التجارية مرونة مدهشة في التكيف مع اضطراب عالمي غير مسبوق، ونجحت في إيصال السلع الحيوية إلى وجهاتها بأقل قدر من الانقطاع.
– لكنها من جهة أخرى، كشفت عن سوء تقدير الشركات لمخاطر التركيز الجغرافي، والمبالغة في تحسين كفاءة سلاسل الإمداد على حساب مرونتها وقدرتها على الصمود.
– ومن رحم هذه الأزمة، وُلد مبدأ “الصين + 1″، الذي لا يهدف إلى القطيعة مع العملاق الصيني، بل إلى التنويع الاستراتيجي لمصادر الإمداد.
– وهنا أيضاً، تفرض قوى السوق منطقها، حيث تسارع الشركات إلى توزيع مخاطرها حيثما كان ذلك مجدياً اقتصادياً، بعد أن أدركت أن تكلفة أي انقطاع مستقبلي قد تكون باهظة.
الرسوم الجمركية: سلاح يرتد على صاحبه
– تُسهم البيئة الجمركية التي تقودها الولايات المتحدة في إعادة رسم خريطة التجارة، لكن هذا النهج الحمائي أثبت أنه سلاح ذو حدين.
– فعلى الصعيد الاقتصادي، توفر هذه السياسات حماية للشركات المحلية الأقل كفاءة، بينما تضع الشركات الأمريكية الأكثر نجاحاً وتوسعاً عالمياً في مهب الريح.
– والأخطر من ذلك، أن الرسوم الجمركية تعمل كضريبة مقنّعة يتحمل عبئها المستهلكون والشركات الأمريكية، لا المصدرون الأجانب، مما يحد من الخيارات ويرفع الأسعار.
– كما أن مناخ عدم اليقين الذي تخلقه هذه السياسات المتقلبة يُثبط الاستثمار طويل الأجل، ويجعل حلم “إعادة توطين الصناعات” بعيد المنال.
تشابك اقتصادي عميق يصعب فصم عراه
– إن فكّ الارتباط بين اقتصادات عملاقة بحجم الولايات المتحدة والصين ليس بالمهمة اليسيرة. فقد أمضت الشركات عقوداً في بناء شبكات إنتاج بالغة التعقيد والتكامل، تستفيد من المزايا النسبية لكل دولة.
– هذا التشابك العضوي هو ما دفع واشنطن وبكين إلى عقد “هدنة” في حربهما التجارية، لإدراكهما أن كليهما يحتاج للآخر، لا سيّما في قطاعات حيوية كالمعادن النادرة والرقائق الإلكترونية المتقدمة.
– وما يجري الآن أشبه بـ “إدارة للتباعد”، حيث يسعى كل طرف لكسب الوقت لتطوير بدائله المحلية، وهو مسارٌ محفوف بتكاليف باهظة، إذ لا يقلل من الكفاءة ويخلق ازدواجية مكلفة فحسب، بل يحدّ أيضاً من التلاقح الفكري والإبداع المشترك الذي كان وقوداً للتقدم التكنولوجي.
خريطة التجارة الجديدة: تحالفات أذكى وأكثر مرونة
– على النقيض من فكرة الانكفاء العالمي، يشهد العالم حراكاً دبلوماسياً وتجارياً محموماً؛ فالدول تسعى بشكل حثيث لإبرام اتفاقيات ثنائية وإقليمية أكثر مرونة وانتهازية، وتؤكد بيانات منظمة التجارة العالمية هذا التوجه، حيث لا يزال عدد الاتفاقيات الجديدة يتجاوز عدد القيود المفروضة.
– والأمثلة على ذلك صارخة، كاتفاقية الاتحاد الأوروبي مع تكتل “ميركوسور”، والمساعي الحثيثة لانضمام قوى اقتصادية كبرى إلى “الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ” (CPTPP)، فضلاً عن الاتفاقيات المهمة التي أبرمتها المملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
– تُظهر هذه التحركات أن بوصلة التجارة العالمية تتجه بثبات نحو الأسواق الناشئة ذات التركيبة السكانية الشابة، حيث تكمن فرص النمو الواعدة.
خاتمة: العولمة تتجدد ولا تموت
– إن القول بأفول نجم العولمة يجانبه الصواب؛ فالحقيقة أنها تتباطأ لتتطور، وهذا التطور في جوهره إيجابي ومشجع.
– والشاهد هنا أن قوى التكنولوجيا، والتجارة الرقمية، والتغيّرات الديموغرافية، واتساع الثروة العالمية، كلها عوامل تدعم ترابط العالم، وتسمح للأفراد والشركات بالاستفادة من خيارات أوسع وأسعار أقل.
– وبدلاً من تشييد الجدران الجمركية، يتوجب على صنّاع السياسات التركيز على خفض تكاليف التجارة ومعالجة تجاوزات الماضي بذكاء؛ فالعولمة لا تحتضر، بل تولد من جديد في صورة أكثر حكمةً وتوازناً واستدامة.
المصدر: المنتدى الاقتصادي العالمي