العالم يتغير .. كيف تستعد الدول لرفع سن التقاعد؟ ولماذا تضطر لهذه الخطوة؟
الكاتب:
{pubdate}
عندما يتقاعد الملياردير “وارن بافت” من منصبه كرئيس تنفيذي لشركة “بيركشاير هاثاواي” بنهاية العام الجاري – مع استمراره رئيسًا لمجلس الإدارة – سيكون قد بلغ 95 عامًا، وهو فارق شاسع عن متوسط سن التقاعد في الولايات المتحدة البالغ 65 عامًا فقط.
“بافت”، المعروف بلقب “المستثمر الحكيم”، اعتبر أن تحديد الملياردير “برنارد أرنو” سن التقاعد من منصب الرئيس التنفيذي لمجموعة “إل في إم إتش” عند 80 عامًا “خطأً”، واصفًا هذا السن بأنه “منخفض للغاية”.
هذا التوجه الذي يمجّد العمل الممتد يتقاطع مع أفكار تاريخية مثل تلك التي عبّر عنها “تشارلز إيفانز هيوز”، وزير الخارجية الأمريكي السابق ومرشح الرئاسة قبل أكثر 100 عام، حين قال: “أنا أؤمن بالعمل الجاد، وساعات العمل الطويلة؛ إذ لا ينهار الرجال من فرط العمل، بل من القلق والتبذير.”
في المقابل، يرى كثيرون أن هذه النظرة تُهمّش حقوق الطبقة العاملة، وتُغفل أهمية تحقيق التوازن بين الإنتاج ورفاهية الإنسان، مؤكدين أن العمل طوال الحياة لا يجب أن يكون معيارًا للجدارة أو النجاح.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
في الواقع، لم تعد النظرة للعمل الممتد مجرد رأي فردي أو فلسفة نخبوية، بل أصبحت نهجًا واضحًا تتبناه الحكومات في أنحاء مختلفة من العالم، فمع تزايد متوسط الأعمار، وتباطؤ نمو القوة العاملة، تكشف البيانات الحديثة عن اتجاه عالمي لرفع سن التقاعد وتشجيع الأفراد على البقاء في سوق العمل لفترة أطول.
واللافت أن هذا التوجه لا يقتصر على الدول المتقدمة، بل يشمل أيضًا اقتصادات ناشئة تواجه ضغوطًا مالية وديموغرافية متزايدة.
وبذلك، لم تعد سنوات ما بعد الستين تعني بالضرورة بداية “الاستراحة الطويلة”، بل قد تمثل بداية فصل جديد من العمل، تفرضه الحسابات الاقتصادية أكثر من اختيارات الأفراد أو الرغبة في البحث عن السعادة.
تحول كبير
– تراجع متوسط سن التقاعد للرجال في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى 62.5 عام بحلول 1993 من 64.3 عام في 1949، قبل أن يقفز إلى 64.4 عام في 2022 مع توقعات بأن يصل إلى 66.3 عام لأولئك الذين بدأوا مسيرتهم المهنية في 2022.
– في الوقت نفسه، ارتفع متوسط العمر المتوقع عالميًا إلى 66 عامًا في بداية القرن الجاري من 46.5 عام في منتصف القرن العشرين، ويُتوقع ارتفاعه إلى 76 عامًا بحلول عام 2050، وفقًا لشعبة السكان التابعة للأمم المتحدة.
– نتيجةً لذلك، تُعيد بعض الدول النظر في سن التقاعد وتُجري تعديلات عليه، وفي عام 2023، رفعت فرنسا الحد الأدنى لسن التقاعد القانوني إلى 64 من 62 عامًا، (خطوة أثنى عليها الملياردير “إيلون ماسك” رغم الاحتجاجات الشعبية واسعة النطاق).
– في سبتمبر 2024، أقرّت الصين خطة مماثلة لتغيير سن التقاعد القانوني لأول مرة منذ خمسينيات القرن الماضي، لترفع سن التقاعد للرجال إلى 63 من 60 عامًا، وللنساء إلى 55-58 من 50-55 عامًا.
– أيضًا أقر البرلمان الدنماركي في مايو، قانونًا لرفع سن التقاعد تدريجيًا إلى 70 من 67 عامًا بحلول 2040، في خطوة تهدف إلى جعل سن التقاعد أكثر توافقًا مع متوسط العمر المتوقع.
– تتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أنه بحلول عام 2060، سيقترب متوسط سن التقاعد داخل الاتحاد الأوروبي من 67 عامًا، مع وصوله في العديد من الدول إلى 70 عامًا أو أكثر (74 عامًا في الدنمارك).
– لا يتوقف الأمر على الدول المتقدمة، حيث قال وزير المالية الباكستاني “محمد أورنجزيب” في 2024، إنه يجب اتخاذ خطوات للسيطرة على تكاليف المعاشات التقاعدية التي باتت تُشكّل “عبئًا كبيرًا”، مضيفًا: “أصبح العمر الآن مجرد رقم، وعمر الستين هو الأربعين الجديد”.
ضرورة ملحة للبعض
– مع إعادة تعريف البلدان لخط نهاية المسيرة المهنية لمواطنيها، فإننا على أعتاب إعادة تصميم عالمية لكيفية عيش السكان وكسبهم، وهذه الدول المذكورة سلفًا ليست مجرد شذوذ بل مؤشرات على اتجاه آخذ في النمو عالميًا.
– قد تثير فكرة تمديد الحياة العملية نقاشًا حادًا في الهيئات التشريعية والبرلمانات وقاعات الاجتماعات وحتى على طاولات المطبخ وفي المقاهي، لكن تحت التوتر الاجتماعي والسياسي تكمن فرصة سوقية لا يمكن إنكارها.
– إن الاتجاه الهبوطي في معدلات المواليد، لا يترك للعديد من البلدان خيارات كثيرة، ولم يعد التقاعد خط نهاية ثابتًا مثل الخط الذي حدده المستشار الألماني “أوتو فون بسمارك” منذ أكثر من قرن، وهو الآن (إن جاز التعبير) هدف متحرك يتشكل وفقًا لمتوسط العمر المتوقع والاقتصاد والضرورة.
– في الدنمارك، يبلغ عمر حوالي 21% من السكان 65 عامًا أو أكثر، فيما يشكل الأطفال دون سن 15 عامًا أقل من 16% من السكان، كما تواجه الصين وضعًا ديموغرافيًا غير مسبوق، حيث سيتجاوز 40% من سكانها سن التقاعد بحلول عام 2035.
– مع بلوغ متوسط العمر المتوقع 78 عامًا في الصين و82 عامًا في الدنمارك، فإن نماذج التقاعد التقليدية في تراجع، ويجب أن تتطور الأنظمة التي تدعم العمل، لكن إذا أراد أصحاب العمل وصانعو السياسات ازدهار شركاتهم وبلدانهم، فلا يكفي تمديد عمر التقاعد، بل يجب عليهم إعادة هيكلة الأنظمة ذات الصلة.
– تخيل عامل بناء يبلغ 65 عامًا، وكتفيه تؤلمانه، كيف سيفكر في التقاعد بعمر السبعين؟ هنا يجب أن تلتقي السياسات بالواقع، وتدرك الدنمارك والصين هذا الأمر وقد أدرجتا فئات العمال والتقاعد التدريجي في سياساتهما.
كيف يُخطط لهذه الخطوة؟
– مع ازدياد عمر السكان ومدة عملهم، يجب أن تتطور كيفية تصميم أماكن العمل، وتطوير العملية التعليمية، وضمان الصحة، وإدارة التحولات المالية، وبالنسبة للمستثمرين وصانعي القرار في الشركات، هذه ليست قصةً عابرة، بل هي واقعٌ قائمٌ بالفعل.
– يتطلب إطالة أمد الحياة العملية إعادة تصميم العمليات والمساحات والأدوار، سواء كان الموظفون كبار السن في المكاتب أو المصانع أو بيئات الخدمات، فهم بحاجة إلى أماكن عمل مريحة، وأدوات مناسبة لكبار السن، وحتى إضاءة مناسبة لأعينهم.
– في قطاعي التصنيع والبناء، لا تُعتبر الروبوتات التعاونية والهياكل المساعدة مجرد ابتكارات مستقبلية، بل هي أساسية، ويُظهر اعتماد الدنمارك المبكر لأنظمة بيئة العمل والسلامة، واستثمار الصين في الروبوتات الصناعية (تُمثل 51% من المنشآت العالمية)، حجم هذه الفرص الاستثمارية والطلب عليها.
– لا يمكن لأحد أن يصدق أن التعليم الجامعي أو المهني الذي حصل عليه الشخص في سن المراهقة سيظل مناسبًا لبيئة العمل المتغيرة عندما يتجاوز الأربعين من عمره، فما بالك بتجاوزه الستين، لذلك ستكون إعادة تأهيل الموظفين ضرورة.
– أيضًا ستكون الرعاية الصحية الاستباقية ضرورة استراتيجية، حيث يجب إجراء الفحوصات السنوية، والمراقبة الطبية المستمرة، وتقديم الخدمات الصحية في الموقع، وتطبيق برامج المرونة النفسية، وإدخال الأجهزة الصحية القابلة للارتداء والأنظمة البيئية لتتبع الإرهاق.
– هذه بعض التحديات والفرص، لكن إطالة الحياة العملية يتطلب تفكيرًا شاملًا، ليس فقط بشأن مكان العمل، وإنما أيضًا بشأن ما يتعلق بحياة من يعملون لفترات أطول، ويشمل استراتيجيات تتعلق بالسكن والنقل، لجعل حياة العاملين من كبار السن أكثر سهولة.
– ختامًا، قد يكون العمل لفترة أطول مريحًا بل ومُلهمًا بالنسبة لملياردير يملك السيطرة الكاملة على وقته وقراراته، لكن عندما يأتي دور الأغلبية العظمى من القوة العاملة، فإن إطالة المسيرة المهنية بضع سنوات يتطلب إعادة صياغة السياسات وهيكلة الأنظمة بالكامل.
– العمل لفترة أطول قد يكون ضرورة اقتصادية، لكنه لكي يكون ممكنًا وإنسانيًا، يجب أن يُعاد تصميمه بما يُنصف من لا يملكون رفاهية الخيارات.
المصادر: أرقام- ماركت ووتش- بيانات وتقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- يورو نيوز- يو إس نيوز- بزنس إنسايدر- فيجن أوف هيومنيتي- جو بانكينج ريتس- جود ريدز- بريني كوت- شات جي بي تي