حكاية نجمة ميشلان التي غيّرت وجه الطهو .. من دليل للسائقين إلى أيقونة عالمية
الكاتب:
{pubdate}
في مطلع القرن العشرين، لم تكن السيارات تتجاوز شوارع باريس إلا في نطاق ضيق، لذا فكّرت شركة ميشلان للإطارات في وسيلة مبتكرة لجذب السائقين إلى الطرق الطويلة وتشجيعهم على السفر.
ومن أجل هذا الأمر أصدرت دليلاً صغيرًا باللون الأحمر، يضم نصائح للقيادة ومواقع محطات الوقود والفنادق، وأرفقت به لائحة بالمطاعم الجديرة بالتوقف عندها.
لم يكن يتصوّر أحد آنذاك أن هذا الكتيّب العملي، الموجه في الأساس لرواد الطرق، سيتحوّل مع مرور السنين إلى أرفع معيار لتقييم فنون الطهو في العالم.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
ومع أول نجمة منحتها لجنة التقييم إلى مطعم فرنسي بسيط، تغيّر المشهد تمامًا، ليصبح حلم الطهاة هو الظهور في هذا الدليل، وأصبحت المطاعم تتنافس من أجل الظهور في قائمته.
قصة ولادة نجمة المطاعم العالمية
كانت البداية متواضعة في عام 1900، عندما أصدرت شركة ميشلان الفرنسية دليلًا صغيرًا لمساعدة سائقي السيارات على إيجاد أماكن لتناول الطعام أثناء رحلاتهم، لم يكن الهدف آنذاك أكثر من تشجيع السفر بالسيارات وزيادة استهلاك الإطارات.
وشيئًا فشيئًا، ارتقى الدليل من مجرد توصية للمسافرين إلى علامة تفتح أبواب الشهرة والثروة، ويمنح المدن بطاقة عبور إلى قائمة وجهات تجارب الطعام التي لا تنسى.
وبعد أكثر من مئة عام، تحولت ميشلان من مجرد دليل سياحي، إلى أيقونة ثقافية واقتصادية قادرة على تغيير مصير مطعم صغير في زقاق جانبي، أو رفع قيمة مدينة بأكملها على خريطة السياحة العالمية.
وتوسّع هذا الدليل الفرنسي ليشمل مدنًا متعددة من أنحاء العالم مثل طوكيو، ونيويورك، ونيودلهي، ودبي، لتصبح معيارًا مشتركًا يجمع بين مطاعم ذات خلفيات ثقافية ومطابخ مختلفة، لكنها جميعًا تسعى لتحقيق الكمال في تجربة الطعام المقدّمة للضيف.
أكثر من مجرد جائزة
عند رفع الستار عن نجمة ميشلان، لا تتغيّر اللوحة فقط على موقع المطعم، بل ينقلب عالمه رأسًا على عقب، وفي تلك اللحظة تفتح البوابة نحو الشهرة، لكنها أيضًا تفتح خزائنًا اقتصادية لم يتخيّلها أصحاب المطاعم.
ووفقًا للطاهي الأسطوري “جويل روبوشون” فإن نجمة واحدة تعني زيادة في الإيرادات بنسبة 20%، ونجمتان قد تعني زيادة 40%، وثلاث نجوم تعني تضاعف الإيرادات تقريبًا.
في الولايات المتحدة، شهدت مطاعم ليزي بتي وأطلس في أتلانتا، فور حصولها على نجمة ميشلان، ارتفاعًا في أنشطتها بنسبة تتراوح بين 20 و30%.
وفي طوكيو، التي تضم أكبر عدد من المطاعم الحاصلة على نجوم ميشلان عالميًا، ترتفع الحجوزات بشكل ملحوظ، وغالبًا يمتد الانتظار لشهور.
وتشير تقارير صحفية إلى أن بعض المطاعم سجلت زيادة في حجوزاتها تصل إلى 50% بعد منح النجمة، وارتفاع محتمل يصل إلى 75% في حال اقتنائها نجمتين.
وفي المنطقة العربية، أصبح للمطاعم التي لديها هذا الوسام حضور عالمي قوي عند إدراجها في دليل ميشلان، وتضاعفت شهرتها واستقطبت جمهورًا جديدًا يبحث عن تجارب راقية ومتكاملة.
أبرز الدول التي لديها مطاعم حاصلة على 3 نجوم ميشلان
الدولة
عدد مطاعم 3 نجوم
فرنسا
30
اليابان
20
إسبانيا
15
الولايات المتحدة
13
إيطاليا
13
ألمانيا
10
المملكة المتحدة
9
وعلى الرغم من هذه المكاسب، فإن رحلة النجمة قد تحمل مخاطر، فقد وجد تقرير أن ما يقارب نصف المطاعم الحاصلة على نجمتين أو ثلاث نجوم في أوروبا لم تكن تحقق أرباحًا قوية بسبب التكاليف المرتفعة لإدارة الجودة والخدمة مما شكل عائقًا في طريق المكاسب.
شروط الحصول على نجمة ميشلان
الحصول على نجمة ميشلان لا يقتصر على كونها شهادة جودة، بل هو عبور إلى عالم آخر من الشهرة والطلب والسمعة العالمية، غير أن الطريق إلى هذه النجمة ليس معبّدًا، بل تحكمه معايير دقيقة يطبقها مفتشو “دليل ميشلان” بسرية صارمة منذ أكثر من قرن.
أول ما يركز عليه المفتشون هو جودة المكونات، فالمطعم الذي يسعى وراء النجمة يجب أن يستخدم المنتجات الطازجة وأفضلها، بغض النظر عن كلفتها أو صعوبة الحصول عليها.
وذكر تقرير لصحيفة ذا جارديان أن بعض المطاعم الحاصلة على النجوم في لندن تستورد يوميًا مكونات نادرة من آسيا أو أمريكا الجنوبية للحفاظ على التميز في كل طبق.
ثم تأتي براعة الطاهي في المزج بين التقنية والإبداع من أبرز شروط الحصول على هذا التقييم، فنجمة ميشلان لا تُمنح لطعام لذيذ فقط، بل لأطباق تحمل توقيعًا خاصًا وتروي قصة من خلال النكهات.
وأفادت مجلة فوربس في تحليل لها عام 2023 أن الطهاة الذين يحصدون النجمة هم أولئك الذين ينجحون في الجمع بين الأصالة والابتكار، بحيث يشعر الضيف أن كل طبق يقدَّم له لا يمكن أن يتكرر بنفس الروح في مكان آخر.
ولا يقل التناسق والاستمرارية أهمية عن ذلك، فالمفتشون لا يكتفون بزيارة واحدة، بل قد يترددون مرات عدة للتأكد من أن التجربة نفسها تُعاد بذات الجودة في كل مرة.
وهنا يبرز مثال مطعم “نوما” الشهير في كوبنهاغن، الذي حافظ على ثلاث نجوم لسنوات، قبل أن يعلن إغلاقه مؤقتًا عام 2024، مبررًا ذلك بالضغط الهائل للحفاظ على المستوى الذي تفرضه ميشلان بحسب ما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز.
أما الانسجام بين السعر والتجربة فهو معيار آخر، إذ ترى ميشلان أن قيمة ما يدفعه الزبون يجب أن تنعكس بوضوح في جودة ما يتلقاه.
لذلك نجد بعض المطاعم الصغيرة في اليابان أو تايلاند تحصد النجمة رغم بساطة تصميمها أو صغر مساحتها، لأنها تقدّم طعامًا يوازي – وربما يتجاوز – في جودته مطاعم فاخرة في باريس أو نيويورك.
وأشارت سي إن إن في تقرير لها عام 2017 إلى أن كشك طعام صغير في سنغافورة قد حصل على نجمة ميشلان، ليصبح “أرخص مطعم حاصل على النجمة في العالم”، حيث كان سعر الطبق لا يتجاوز دولارين!
في النهاية، فإن الحصول على نجمة ميشلان لا يعني فقط التفوق في المذاق، بل الانضباط في كل التفاصيل، من لحظة دخول الزبون وحتى آخر لقمة.
بين الشهرة والضغط
ومع أن النجمة تُعد بمثابة جواز سفر عالمي نحو الشهرة، إلا أنها تحمل في طياتها ضغوطًا هائلة.
إذ يشعر الطهاة بضرورة الحفاظ على المستوى الاستثنائي نفسه عامًا بعد عام، وسط توقعات عالية من النقاد والزبائن على حد سواء، وبالفعل اعترف بعض الطهاة بأن النجمة رفعت من شأنهم ماليًا ومهنيًا، لكنها أيضًا قيّدت حريتهم في الابتكار وفرضت عليهم ضغوطًا نفسية.
فهناك جانب مظلم لهذا الوسام، ففي عام 2003، صُدم الوسط العالمي بانتحار الطاهي الفرنسي الشهير “برنارد لوازو”، مالك مطعم لا كوت دور الحائز على ثلاث نجوم.
وأشارت تقارير صحفية إلى أن الضغوط النفسية الناجمة عن خوفه من فقدان إحدى تلك النجوم لعب دورًا حاسمًا في قراره المأساوي.
كما أن بعض الطهاة اختاروا طوعًا التخلي عن النجوم لتخفيف العبء مثل الطاهي الفرنسي “سيباستيان براك” الذي طلب رسميًا في عام 2017 من “دليل ميشلان” إزالة مطعمه لي سكويت من التصنيف، معلنًا أن النجوم لم تعد تجلب له سوى القلق والضغوط.
هذه القصص تعكس حقيقة أن ميشلان ليست مجرد نجمة لامعة تفتح أبواب الشهرة والثروة، بل أيضًا سيف ذو حدّين قد يحوّل المطبخ إلى ساحة صراع نفسي يومي بين الطموح والخوف.
وفي نهاية المطاف، تبقى تجربة الطعم أكبر من أي تصنيف أو نجمة، إذ لا يمكن إنكار أن مطاعم ميشلان تقدم مستوى استثنائيًا من الخدمة والابتكار يليق بعالمية اسمها، لكنها ليست وحدها صاحبة الوصفات السرية للطهي.
ففي الأزقة الجانبية لمدن مزدحمة، أو في مطاعم صغيرة لا يعرفها سوى أهل الحي، يمكن أن يقدَّم طبق بسيط لكنه يلامس روحك بعمق، ويمنحك تجربة لا تقل روعة عن أي مائدة داخل مطعم قد يحمل ثلاث نجوم من ميشلان.
فالطعام في جوهره ليس فقط تقنيات أو شهرة، بل حكاية تُروى من خلال المذاق.
وبين رفاهية القوائم الفاخرة وبساطة الأطباق الشعبية، يظل الحكم الأخير بيد المتذوق، لأن لذة الطعم الحقيقية لا تُقاس بعدد النجوم، بل بقدرتها على أن تبقى في الذاكرة.
المصادر: أرقام- موقع ميشلان- فايننشيال تايمز- رويترز- بلومبرج- سي إن إن- ذا جارديان- نيويورك تايمز- مجلة فوربس- بي بي سي