أيهما يُنعش خزائن شركات الطيران: رجال الأعمال أم المسافر العادي؟
الكاتب:
{pubdate}
في صباحٍ باكرٍ من صيف سنغافورة، توجه “مارك أندرسون” إلى مطار شانغي ليصعد إلى الطائرة المتجهة إلى لندن، ليستقبله طاقم الضيافة بابتسامات دافئة وكوب من العصير المثلج المعد خصيصًا حسب رغبته.
جلس “أندرسون” في مقعده الوثير بدرجة رجال الأعمال، ليتمتع برحلته التي هي أشبه بتجربة فندقية معلقة في السماء، حيث بدأ يتصفح قائمة الطعام وكأنّه في مطعم راقٍ، لا على متن طائرة.
ومن المقعد الذي يتحول إلى سرير، مرورًا بحقيبة العطور الفاخرة، وطاقم الضيافة المدرب على أعلى مستوى، تبدو كل تفاصيل الرحلة وكأنها صُممت خصيصًا لفئة لا تتردد في دفع الكثير مقابل تجربة سفر متكاملة.
وفي الوقت الذي يستمتع فيه مارك بكل هذه الرفاهية، كان مئات الركاب في المقاعد الخلفية يشغلون الطائرة من طرفها إلى طرفها، ويشكّلون العمود الفقري لأي رحلة.
وهنا قد يتبادر إلى أذهاننا سؤال بشأن من يُنعش خزائن شركات الطيران فعلاً؟ هل هو أندرسون، الذي دفع آلاف الدولارات مقابل تجربة سفر مترفة؟ أم هؤلاء الذين حجزوا تذاكرهم بأقل الأسعار، لكنهم يملأون الطائرة ويضمنون استمرارية الرحلات؟
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
مساهمة مسافري الأعمال في الإيرادات
تتسابق شركات الطيران لتقديم تجارب سفر متنوعة، تتراوح بين خدمات فاخرة تتضمن أسرّة مسطحة وطعامًا فاخرًا في مقصورات معزولة، وخيارات اقتصادية تركز على الكفاءة والتكلفة المنخفضة.
ورغم أن مسافري الأعمال لا يمثلون سوى حوالي 12% من إجمالي الركاب، إلا أنهم يساهمون بما يصل إلى 75% من أرباح شركات الطيران، بحسب تقارير متعددة في قطاع الطيران.
ويرجع ذلك إلى استعدادهم لدفع أسعار مرتفعة مقابل مرونة المواعيد والخدمات المباشرة، لا سيما في الحجوزات التي تُجرى في اللحظة الأخيرة.
وتشير بيانات من شركات مثل الخطوط الجوية البريطانية إلى أن المقاعد المميزة (تشمل الدرجة الأولى ودرجة رجال الأعمال والدرجة الاقتصادية الممتازة) تمثل 45% فقط من المقاعد في طائرات مثل بوينغ 777، لكنها تحقق ما يقارب 84% من إجمالي الإيرادات.
وتؤكد بيانات من موقع مايتي ترافيلز بريميم أن مقصورات رجال الأعمال على الرحلات الطويلة قد تدر نحو 70% من الإيرادات، رغم صِغر حجمها مقارنةً بالدرجة الاقتصادية.
وفي الرحلات الجوية الطويلة التي تستغرق نحو عشر ساعات، تُقسَّم الطائرة عادة إلى أربع فئات رئيسية، تبدأ بالدرجة الأولى، التي توفّر تجربة راقية، وهي الأعلى تكلفة على الشركة بسبب المساحة الكبيرة التي تستهلكها والخدمات الفاخرة المرتبطة بها.
تليها درجة رجال الأعمال، والتي تُعد الأكثر ربحية بفضل مزيجها المتوازن من الراحة والعائد المالي المرتفع.
ثم تأتي الدرجة الاقتصادية الممتازة، التي تشكّل خيارًا وسطًا يجمع بين الراحة والتكلفة المعقولة، وتُحقق عوائد مجزية مع تكاليف تشغيل منخفضة نسبيًا.
وأخيرًا، الدرجة الاقتصادية، التي تشكّل القاعدة العددية الأوسع داخل الطائرة، وتُستخدم أساسًا لملء المقاعد وتحقيق التوازن التشغيلي، رغم أنها الأقل ربحية لكل مقعد.
ورغم أن الفئات الثلاث الأولى (الأولى- رجال الأعمال- الاقتصادية الممتازة) لا تشغل سوى أقل من نصف مساحة الطائرة، فإنها تولّد غالبية الإيرادات، فيما يعكس استراتيجية توزيع مدروسة تهدف إلى تعظيم العائد مقابل كل قدم مربع من المساحة.
تفاوت الفخامة يؤثر على الإيرادات
تختلف الإيرادات بشكل كبير بين شركات الطيران عندما يتعلق الأمر بالدرجة الأولى، فعلى سبيل المثال، شركات الطيران الفاخرة مثل طيران الإمارات والخطوط الجوية القطرية تقدم مقصورات درجة أولى توفر تجارب فاخرة.
وتؤدي تلك الفخامة إلى ارتفاع أسعار التذاكر بشكل كبير، إذ قد تصل إلى 10 آلاف دولار أو أكثر في بعض الرحلات الطويلة، بينما الشركات الأخرى مثل دلتا أو يونايتد قد تقدم تجربة أقل تكلفة في درجة الأولى.
مقارنة بين فئات السفر من حيث الربحية والمساحة والتكلفة
الفئة
النسبة من إجمالي مقاعد
الطائرة (%)
متوسط سعر
التذكرة
الربحية المتوقعة
الدرجة الأولى
5-10
عالية جدًا
متوسطة
رجال الأعمال
15-20
عالية
مرتفعة جدًا
الاقتصادية الممتازة
10-15
متوسطة
متوسطة
الاقتصادية
55-65
منخفضة
بين الانخفاض والتوسط
وكذلك الأمر في درجة رجال الأعمال، حيث تتفاوت إيرادات هذه الفئة أيضًا حسب استراتيجية كل شركة.
فعلى سبيل المثال، الخطوط الجوية السنغافورية وطيران الاتحاد غالبًا ما تقدم درجة رجال الأعمال بأسعار مرتفعة مقارنة بشركات مثل ريان إير أو ساوث ويست، التي توفر درجات رجال الأعمال بأسعار أقل، ولكن بمرافق أقل رفاهية.
في حين تعتبر الدرجة الاقتصادية المصدر الرئيسي للإيرادات لكافة شركات الطيران، ولكن الإيرادات المتحققة قد تتفاوت حسب الأسعار (التي تعتمد على موسم السفر، الأسعار التنافسية، والعروض الترويجية).
وفي شركات الطيران الاقتصادية مثل ساوث ويست أو راين إير، تُعتبر هذه الفئة المصدر الأساسي للإيرادات مقارنة بشركات أخرى تقدم درجة اقتصادية بسعر أعلى.
عوامل أخرى مؤثرة
لا تقتصر أرباح شركات الطيران على درجات المقاعد فقط التي توفرها، بل تتأثر بعدة عوامل تشغيلية تؤدي دورًا محوريًا في تحديد العائدات الصافية.
ومن أبرز هذه العوامل تكاليف الوقود، إذ يُعد هذا العامل أكبر بند ثابت في مصاريف التشغيل لدى شركات الطيران.
لذا عمدت شركات كبرى عديدة مثل “دلتا” إلى الاستثمار في أساطيل حديثة أكثر كفاءة في استهلاك الوقود، ما يساهم في خفض التكاليف على المدى الطويل.
في المقابل، تواجه الشركات التي تعتمد على طائرات أقدم تحديات مالية أكبر بسبب الاستهلاك العالي للوقود.
كما تشكل أجور الطواقم واحدة من أبرز العوامل المؤثرة على أرباح الشركات إذ تختلف تكلفة رواتب الطاقم تبعًا للموقع الجغرافي وطبيعة عقود العمل.
فالشركات الوطنية الكبرى مثل الخطوط الجوية الأمريكية أو الفرنسية غالبًا ما تتحمل نفقات أعلى نتيجة اتفاقيات العمل النقابية والمزايا الإضافية المقدمة للموظفين.
أما شركات الطيران منخفضة التكلفة مثل “إيرآسيا” و”إيزي جيت”، فتتميز بأجور أقل وخدمات مبسطة تساعد على تقليل التكاليف.
استراتيجيات تسعير وتعزيز الربحية
وفي قلب هذا التساؤل حول من يُنعش خزائن شركات الطيران أكثر، يظهر بُعدٌ آخر لا يقل أهمية: كيف تدير شركات الطيران مواردها وتسعّر خدماتها لتعظيم الأرباح؟
فالفرق لا يكمن فقط في نوع المسافر أو قيمة التذكرة، بل في الاستراتيجية الذكية التي تتبعها كل شركة لاستهداف شرائح مختلفة من الركاب.
فحتى مع اختلاف فئات المسافرين، تبقى كيفية تسويق التذاكر وتقديم الخدمة أحد أهم مفاتيح النجاح.
وتعتمد شركات الطيران الكبرى مثل أميركان إيرلاينز ويونايتد على التسعير الديناميكي، وهي آلية مرنة تقوم على تعديل أسعار التذاكر حسب العرض والطلب، ووفقًا للموسم والوجهة ومدى اقتراب موعد الرحلة.
هذا النوع من التسعير يُعد أساسيًا لتحقيق أقصى استفادة من المسافرين القادرين على الدفع، خاصة في الفئات المميزة مثل درجة رجال الأعمال والدرجة الاقتصادية الممتازة.
في المقابل، تتبع شركات مثل الخطوط القطرية وطيران الإمارات سياسة تقوم على التحسين المستمر في خدمات الفئات الممتازة، ليس فقط لاستقطاب المسافرين المميزين، بل أيضًا لبناء ولاء طويل الأمد.
الراحة، والرفاهية، والتجارب المصممة خصيصًا لكل راكب، أصبحت عناصر تُترجم مباشرة إلى أرباح أعلى وهوامش مالية أوسع، ما يجعل الاستثمار في التجربة نفسها جزءًا من المعادلة الربحية.
الابتكار في خدمات المقصورات
تقدم شركات الطيران مثل الخطوط الجوية السنغافورية وطيران الإمارات خدمات فاخرة يمكن أن تدر أرباحًا إضافية من خلال تعزيز العروض مثل التجارب الخاصة في الطائرة، مثل تناول الطعام الفاخر في درجة رجال الأعمال أو توفير وسائل راحة فريدة في الدرجة الأولى.
كما تعمل شركات الطيران على تحسين جداول الرحلات لتزيد من كفاءة التشغيل وتقليل التكاليف الثابتة.
ومن خلال تحسين جدولة الرحلات، يمكن للشركات زيادة استغلال أسطولها وتقليل الفترات الزمنية غير المربحة.
بين مقاعد الدرجة الاقتصادية الممتلئة ومقصورات رجال الأعمال الفاخرة، تكمن معادلة الربحية المعقدة في صناعة الطيران.
ليس المسافر العادي وحده من يُنعش خزائن الشركات عبر الأعداد الكبيرة، ولا رجال الأعمال فقط عبر التذاكر المرتفعة الثمن، بل إن الربح الحقيقي يولد من القدرة على التوازن الذكي بين الفئتين، وتطبيق استراتيجيات دقيقة في التسعير، والتشغيل، والخدمة.
كل تلك المؤشرات تشير إلى أن شركات الطيران التي تنجح في قراءة سلوك المسافرين، والاستثمار في الابتكار والكفاءة التشغيلية، هي من تتمكن في النهاية من التحليق فوق تقلبات السوق، وتحقيق أرباح مستدامة في سماء المنافسة العالمية.
المصادر: أرقام- مايتي ترافيلز بريميم- اتحاد النقل الجوي الدولي- سكيفت للأبحاث- إيرلاين ويكلي