حين تكون الخسارة هي الخيار الأفضل .. هل أبيع الآن؟
الكاتب:
{pubdate}
في عالم المال، حيث تتحرك الأرقام أسرع من نبضات القلب، وحيث تُبنى الثروات وتنهار الإمبراطوريات في لمح البصر، هناك قرار واحد يواجهه كل مستثمر عاجلاً أم آجلاً: هل أبيع الآن؟
قد يبدو السؤال بسيطًا، لكنه في جوهره اختبارٌ لعقلية المستثمر، ومقياسٌ لقدرته على كبح الجشع وترويض الأمل.
تخيل نفسك ممسكًا بسهم اشتريته ذات يوم وأنت مفعمٌ بالثقة والتوقعات الوردية، ثم بدأت قيمته تتراجع يومًا بعد يوم، والسوق يتجه نحو الهبوط.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
البعض يتمسك بالأمل حتى النهاية، ويرفض الاعتراف بالخسارة، كمن يرفض الاعتراف بانتهاء العلاقات الإنسانية السامة، في المقابل هناك آخرون يفهمون الأسواق جيدًا ويعلمون أنه أحيانًا، تكون أفضل صفقة هي تلك التي لم تكتمل، وأفضل ربح هو خسارة أوقفت نزيفًا أكبر.
ففي عالم الاستثمار، يُنظر إلى الربح عادةً على أنه الهدف النهائي، لكن المستثمرين المحترفين يدركون حقيقة قد تبدو منافية للمنطق وهي أنه أحيانًا يكون التخلي عن أصل خاسر هو القرار الأذكى.
فمعرفة الوقت المناسب للبيع – حتى ولو بخسارة – قد يحمي محفظتك من أضرار أكبر، ويُحرر رأس المال لفرص استثمارية أفضل، ويمنع مزيدًا من النزيف المالي.
ولكن متى تكون الخسارة ذكية؟ ومتى تتحول الأرباح إلى فخ قاتل؟ هذا ما سنكشفه عبر أمثلة من الواقع تظهر لنا كيف تهاوت أسهم لامعة بعد أن بلغت الذروة، وأدرك البعض – وإن متأخرين – أن وقت البيع الأمثل هو قبل وقت طويل من ذروة الانهيار.
خرافة “الاحتفاظ حتى التعافي”
يقع كثير من المستثمرين الأفراد في فخ نفسي يُعرف باسم “مغالطة التكاليف الغارقة” وهو مصطلح استخدمه العديد من المتخصصين في الاقتصاد ومن بينهم ريتشارد ثالير الحائز على نوبل في الاقتصاد السلوكي في عام 2017.
ويشير هذا المصطلح إلى الاستمرار في الاحتفاظ بأصول خاسرة لمجرد أنهم استثمروا فيها بالفعل، هذا الانحياز العاطفي يؤدي غالبًا إلى خسائر أعمق وفرص ضائعة في أماكن أخرى.
على سبيل المثال، سهم شركة زووم المالكة لتطبيق المؤتمرات الشهير حيث شهد قفزة هائلة أثناء الجائحة، وصل سعره إلى أكثر من 560 دولارًا أمريكيًا في أكتوبر 2020 بفضل ازدهار العمل عن بُعد.
لكن بحلول منتصف عام 2025، انخفض السهم إلى أقل من 65 دولارًا، نتيجة تراجع الطلب واشتداد المنافسة، وبالتالي فإن أولئك الذين لم يقطعوا خسائرهم مبكرًا فقدوا أكثر من 85% من استثماراتهم.
وينطبق الأمر ذاته على شركة راكوتين اليابانية، التي كانت تُعد رمزًا للنجاح الرقمي في آسيا.
فبعد توسعها الكبير في مجالات متعددة، من التجارة الإلكترونية إلى الاتصالات والبنوك، بدأت معالم التشتت والتضخم المالي تظهر على الشركة، لا سيما مع فشل قسم الاتصالات في تحقيق عوائد مستدامة.
وفقد سهم راكوتين الذي كان يُتداول بقوة في عام 2015 أكثر من نصف قيمته بحلول 2024، ومع ذلك ظل العديد من المستثمرين متمسكين بالسهم، آملين في تعافٍ لم يتحقق حتى الآن.
التمسك ببعض الأسهم يكلفك الكثير
يرى كثير من المستثمرين أن مجرد الاحتفاظ بسهم لا يحقق خسائر فادحة هو أمر مقبول، بل وربما “آمن”، ما دام رأس المال الأصلي لم يتآكل بشكل ملحوظ، غير أن هذا التفكير يغفل عنصرًا بالغ الأهمية وهو تكلفة الفرصة البديلة.
فحين يبقى سهم ما في محفظتك لسنوات دون أن يحقق نموًا حقيقيًا، بل يراوح مكانه أو يتراجع تدريجيًا، فأنت لا تخسر فقط في القيمة، بل تفوّت فرصًا حقيقية للاستثمار في أسهم أخرى أكثر ديناميكية وربحية، ويصبح استثمارك أشبه ما يكون بسفينة لا تغرق لكنها أيضًا لا تُبحر.
فعلى سبيل المثال إذا كانت تستثمر في شركة واعدة في قطاع الاتصالات أو التجزئة، ثم دخلت في دوامة تنافسية أو بدأت بالتراجع، لتبقى أسهمها عالقة في نطاق سعري محدود لسنوات، فإن التمسك بأسهم تلك الشركة أملاً في عودة أمجادها يستهلك وقتًا ثمينًا.
خلال هذا الوقت يمكنك نقل الأموال إلى شركات صاعدة في قطاعات متجددة وتحقيق عوائد جيدة جراء الاستثمار فيها.
فإذا استثمر أحدهم نحو 10 آلاف دولار أمريكي في نوفمبر 2014 بسهم الشركة الصينية الشهير بايدو بسعر 242 دولارًا أمريكيًا للسهم، ثم ظل محتفظًا به لنحو 16 شهرًا رغم تراجعه بنحو 35% ليصل إلى 145 دولارًا، فإن قيمة استثماره ستبلغ حينها 6500 دولار.
في المقابل لو باع هذا الشخص السهم مع بداية هبوطه عند سعر 200 دولار للسهم على سبيل المثال، حينها ستبلغ قيمة استثماره 8300 دولار فقط.
ومع استثمار هذا المبلغ في سهم شركة واعدة مثل نيبون اليابانية والذي ارتفع سعره بنسبة 42% خلال الفترة نفسها، لأصبح قيمة استثماره حوالي 11.7 ألف دولار.
ويعني هذا المثال أنه إذا ظل الشخص مصرًا على الاحتفاظ بسهم بايدو طوال 16 شهرًا لكلفه هذا الأمر خسائر بأكثر من 5 آلاف دولار.
خسارة استراتيجية من أجل الربح الأكبر
حتى الشركات الكبرى تلجأ إلى “البيع بخسارة” عندما يكون ذلك في مصلحة استراتيجية أوسع.
ففي عام 2023، أعلنت شركة فورد عن شطب 2.7 مليار دولار من وحدة السيارات الكهربائية، نتيجة تقلبات أسعار البطاريات والتحديات في سلاسل التوريد.
وبدلاً من الاستمرار في ضخ الأموال في مشروع غير مربح، أعادت الشركة توجيه استثماراتها نحو البحث والتطوير في السيارات الهجينة ومنصات أكثر كفاءة.
وبالمثل، قامت شركة ميتا بين عامي 2021 و2024 بشطب أكثر من 13 مليار دولار من استثماراتها في مشروع “الميتافيرس”.
ورغم أن القرار كان مؤلمًا، إلا أنه مكّن الشركة من إعادة توجيه مواردها نحو الذكاء الاصطناعي والإعلانات الرقمية، وهما قطاعان شهدا انتعاشًا كبيرًا في عام 2025.
ولم يكن وارن بافيت، أحد أنجح المستثمرين في التاريخ، بعيدًا عن هذا النهج، ففي عام 2020، اتخذ قرارًا مثيرًا للجدل بالتخارج الكامل من استثماراته في شركات الطيران الأمريكية، مثل “دلتا” و”يونايتد”.
وجاء قراره رغم الخسائر التي تكبّدها نتيجة التراجع الحاد في أسعار الأسهم بسبب جائحة كورونا، مما جعل البعض يعتبر القرار متسرعًا، في حين دافع بافيت عنه باعتباره “تصحيحًا للمسار”، إذ رأى أن مستقبل قطاع الطيران أصبح أكثر ضبابية على المدى الطويل.
وسرعان ما أعاد توجيه أموال تلك الاستثمارات نحو شركات أكثر قدرة على التأقلم، مثل “أبل” و”شيفرون”، التي حققت لاحقًا عوائد قوية ورفعت من قيمة محفظته الاستثمارية.
مؤشرات تدل على أن وقت البيع حان
في عالم الاستثمار، من الصعب إن لم يكن مستحيلًا معرفة تحركات السوق بدقة، ومع ذلك هناك إشارات رئيسية لا يمكن تجاهلها، وتشير إلى أن الاستمرار في التمسك بأصل خاسر قد يفاقم الخسارة، لا يقللها.
فقرار البيع لا يجب أن يُبنى على العاطفة، بل على مؤشرات واضحة تتعلق بالواقع المالي والتغيرات الاستراتيجية، وأولى هذه المؤشرات هو تدهور الأساسيات المالية للشركة.
فعندما تبدأ الإيرادات بالانخفاض بشكل مستمر، أو ترتفع مستويات الدين بشكل مقلق دون خطط لسداده، أو تتراجع الحصة السوقية نتيجة ضعف التنافسية، فذلك يعكس تآكل المقومات الأساسية التي تُبنى عليها القيمة المستقبلية للسهم.
ويعد الاستمرار في هذا النوع من الاستثمار من الأخطاء الشائعة.
ومن بين الأسباب التي تعجل بقرار البيع انهيار الفرضية الاستثمارية الأصلية، فغالبًا ما يشتري المستثمر سهمًا بناءً على قناعة أو تحليل مفصل لقطاع معين أو خطة نمو واضحة.
لكن إذا تغيرت تلك الفرضية كأن تُلغى خطة التوسع، أو تفشل استراتيجية التحول الرقمي، أو يتم استبدال القيادة الإدارية الناجحة بأخرى أقل كفاءة فإن الاحتفاظ بالسهم لمجرد “الأمل” يُصبح قرارًا عاطفيًا لا استثماريًا.
ويعد أحد أكبر الأخطاء هو تجاهل الفرص البديلة إذا ظهرت في السوق شركات أو قطاعات تتمتع بعائد متوقع أعلى، وبتقييمات عادلة أو منخفضة نسبيًا، فإن التشبث باستثمار راكد يفوّت على المستثمر مكاسب محتملة كان بالإمكان اقتناصها لو تحلّى بالمرونة.
ففي عالم المال، ليس النجاح في تعظيم الأرباح فحسب، بل في تقليل الخسائر أيضًا. إنّ قدرتك على التخلّي الواعي عن الأصول المتعثرة، والاعتراف بانتهاء صلاحية استثمارٍ ما، تُعدّ من علامات النضج المالي والانضباط الاستراتيجي.
فبيع سهم لا يحقق عوائد، أو يراوح مكانه بينما تتغير الأسواق من حوله، ليس فشلاً، بل قرارًا احترافيًا يحمي رأس المال ويعيد توجيهه نحو فرص أكثر جدوى.
الاستثمار الناجح لا يقوم فقط على معرفة متى تشتري، بل متى تخرج أيضًا، والقدرة على الحسم في لحظات الحيرة، هي ما يميّز المستثمر المتبصّر عن المتردد الذي يعلّق آماله على الماضي.
وتذكّر دائمًا أنه في الأسواق، البقاء ليس للأكثر صبرًا فحسب، بل للأكثر مرونة وجرأة في اتخاذ القرار الصعب حين يحين وقته.
المصادر: فانجارد جروب- ميتا- فورد موتور- بلومبرج- سي إن بي سي- فايننشال تايمز- رويترز