Fx Forsa

الرئيسيةالأخبار الأقتصادية‏دروس التاريخ .. كيف ولدت فكرة أول في بورصة؟ وكيف شكلت الرأسمالية...

‏دروس التاريخ .. كيف ولدت فكرة أول في بورصة؟ وكيف شكلت الرأسمالية العالمية؟

-

‏دروس التاريخ .. كيف ولدت فكرة أول في بورصة؟ وكيف شكلت الرأسمالية العالمية؟

الكاتب:

{pubdate}

تحت أبراج قاعة مدينة أمستردام، في صباح ربيعي بارد من عام 1602، يتجمع حشد من التجار الهولنديين بقبعات وياقات يتداولون قصاصات الورق وسط إلحاح شديد، لكن هذه ليست أوراقًا عادية؛ إنها شهادات أسهم لشركة الهند الشرقية الهولندية، والتي صدرت للتو في أول طرح عام أولي في التاريخ.

وسط نداءات البائعين وصرير عجلات العربات، تدون أقلام الريش المعاملات في دفاتر الحسابات، حيث صانع أشرعة تحول إلى مستثمر يستبدل إيصالاته في الشركة بحقيبة من الجيلدر، مستفيدًا من رحلة ساهم في تمويلها، وبجواره تاجر جبن يتفاوض لشراء تلك الحصة، متطلعًا إلى تحقيق أرباح من تجارة التوابل.

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

هذه السوق المفتوحة للأفكار ورأس المال تمثل مشهدًا ثوريًا: فالثروة والسلطة تنتقلان ليس بالسيف أو المرسوم الملكي، بل بالأقلام ودفاتر الأسهم، في هذا المشهد النابض بالحياة، البعيد كل البعد عن بهاء القصور، انبثق عصر رأس المال الحديث.

قليلون أدركوا هذا في ذلك الوقت، لكن هذه الخربشات في دفاتر الحسابات تُنذر بتحول عميق من هيمنة النبلاء والأمراء إلى حكم الأسواق والمساهمين، حيث لن يعود العالم كما كان أبدًا.. ما حدث في شوارع أمستردام عام 1602 ليس أقل من ثورة مالية على النظام القديم.

هؤلاء المواطنون الهولنديون، وكثير منهم من ذوي الأصول المتواضعة، يجرؤون على تخيل أن المبادرة والاستثمار – وليس الامتيازات الأرستقراطية – قادران على دفع عجلة الرخاء.. فكيف غير هؤلاء أوروبا والعالم؟

أول ثورة برجوازية في التاريخ

– كانت أمستردام في القرن السابع عشر بمثابة جمهورية تجارية في عصر الممالك المطلقة، وعلى عكس الممالك المركزية في فرنسا أو إسبانيا، لم يكن لها ملك، بل كان يحكمها رجال دولة تجار وحكام مدن، واتسمت السلطة في هولندا عمومًا باللامركزية الشديدة.

– لم يكن هذا الهيكل السياسي مصادفة، فقد انبثق من بوتقة الثورة الهولندية (1568-1648)، وهي حرب استمرت 80 عامًا، والتي أشاد بها المؤرخون باعتبارها أول ثورة برجوازية في التاريخ، وكانت متعلقة بالاقتصاد والحقوق المدنية بقدر ما كانت متعلقة بالاضطهاد الديني.

– اتحد التجار والنبلاء الهولنديون لمقاومة محاولات ملك إسبانيا “فيليب الثاني” لخنق تجارتهم وحرياتهم من خلال الضرائب الإقطاعية والمراسيم الاستبدادية، وبذلك، أسسوا نوعًا جديدًا من الدولة “كومنولث تجاري” بُني لخدمة الرخاء بدلًا من العظمة الملكية.

– أشاد “آدم سميث” بعد قرن من الزمان بالجمهورية الهولندية باعتبارها النموذج الأمثل “للمجتمع التجاري”، وأثنى على التزامها العالمي بالتجارة الحرة كمصدر ثروتها الهائلة.

– أنشأ الهولنديون نظامًا ماليًا تفوق على أنظمة الملكية الأوروبية، ففي حين أرهقت إسبانيا وفرنسا خزائنهما بالحروب وتخلفتا كثيرًا عن سداد القروض، فرض الهولنديون ضرائب فعالة، وأصدروا سندات على نطاق واسع، ووفوا بديونهم.

– أصبحت أمستردام نقطة جذب للمواهب ورؤوس الأموال من جميع أنحاء أوروبا وجلب هذا التدفق أفكارًا ومهارات جديدة، ويمكن القول إنها أصبحت القلب النابض للتجارة العالمية، مع ميلاد مؤسسات من شأنها إعادة تعريف كيفية توليد الثروة ومن يحق له استخدامها.

ميلاد أول بورصة في العالم

– في عام 1602، بينما كانت الحرب لا تزال مستعرة مع إسبانيا، اتخذت الجمهورية الهولندية خطوة جريئة لتمويل طموحاتها البحرية، وأنشأت شركة الهند الشرقية الهولندية، كشركة مساهمة.

– لم تكن هذه شركة عادية، فلأول مرة في التاريخ، طرحت شركة الهند الشرقية الهولندية أسهمًا عامة للجمهور، داعيةً كل من يملك المال (من البرجوازيين الأثرياء إلى الحرفيين المهرة) للاستثمار في رحلات إلى جزر الهند الشرقية، وكان رد الفعل استثنائيًا.

– اكتتب رجال ونساء من جميع أنحاء المقاطعات المتحدة برأس مال الشركة، مما جعلها أول شركة مملوكة للقطاع العام في العالم (أي أن الهولنديين ابتكروا الطرح العام الأولي)، وجمع إصدار أسهم شركة الهند الشرقية الهولندية عام 1602 أكثر من 6 ملايين جيلدر، وهو مبلغ مذهل في ذلك الوقت.

– كان كل سهم يُخوّل مالكه الحصول على جزء من أرباح التجارة الآسيوية، لا سيما التوابل والحرير وغيرها من الكماليات، لكن العبقرية لم تكمن فقط في تجميع رأس المال لتأسيس الشركة، بل في جعل تلك الأسهم قابلة للتحويل بحرية.

– في السابق، كان على المستثمرين في رحلات التجارة الانتظار لسنوات حتى عودة الرحلة وتقسيم الأرباح (أو احتساب الخسائر)، لكن الشركة الجديدة غيرت قواعد اللعبة، حيث نصّ ميثاقها على أن الأسهم دائمة ويمكن بيعها لأطراف ثالثة إذا رغب المستثمر في تسييلها مبكرًا.

– أطلق هذا البند البسيط في ظاهره ثورة، وعلى الفور تقريبًا، انبثقت سوق ثانوية غير رسمية لأسهم شركة الهند الشرقية الهولندية في شوارع أمستردام، قبل تأسيس مبنى للبورصة والذي أرسى قواعد وهيكل تنظيمي، بما في ذلك موقع مركزي للتداول ومواعيد عمل محددة.

ملهمة الغرب: مهد النظام الجديد

– لم يتمتع المستثمرون الإنجليز في البداية بنفس السوق الثانوية النابضة بالحياة، وافتقرت إنجلترا إلى المؤسسات المستقرة التي أسسها الهولنديون، وكان ملوكها في كثير من الأحيان معادين للتجارب المالية التي هددت سيطرتهم، لكن تغير كل ذلك بعد الثورة المجيدة عام 1688.

– حينذاك، نُصب الحاكم العام الهولندي “ويليام أوف أورانج” ملكًا لإنجلترا تحت اسم “ويليام الثالث”، فجلب معه مستشارين ماليين هولنديين، ولاحقًا استعانت إنجلترا بالأدوات الهولندية وأطلقت ثورتها المالية الخاصة.

– تأسس بنك إنجلترا عام 1694، وكانت فكرته مستوحاة بوضوح من نجاح بنك أمستردام في تثبيت العملة وتمويل الدين الحكومي، وتحركت لندن لتوحيد وتمويل الدين الوطني، مما أدى إلى خلق سوق نشطة للسندات الحكومية، ثم طورت سوقًا لتداول الأسهم مشابهة بشكل غريب لنظيرتها في أمستردام، والتي تجاوزتها لاحقًا لتصبح المركز المالي الرائد.

– على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي كانت مدينة نيو أمستردام (نيويورك لاحقًا)، هي مركز تجاري هولندي أنشأته شركة الهند الغربية الهولندية عام 1625، وورغم أنها كانت صغيرة نسبيًا وسقطت في يد الإنجليز عام 1664، إلا أنها تركت بصمات لا تُمحى.

– فمثلًا اشتق اسم “وول ستريت” من الجدار الذي بناه الهولنديون على طول الحافة الشمالية لنيو أمستردام (لصد غارات الأمريكيين الأصليين والبريطانيين)، ومصطلحات مثل “boss” (رئيس)، جاءت من كلمة “baas”، وغيرها في المعجم الأمريكي تُلمّح إلى التأثير الهولندي المبكر.

– خلال الثورة الأمريكية، عندما كانت الولايات المتحدة الناشئة في أمسّ الحاجة إلى الأموال، وتحديدًا عام 1782، تفاوض “جون آدامز” على قرض بقيمة 5 ملايين جيلدر بفائدة 5%، ما كان بمثابة شريان حياة ساعد في منع إفلاس أمريكا واستقرار ماليتها.

– بين عامي 1782 و1794، قدم الهولنديون عدة قروض بلغ مجموعها ما يقرب من 30 مليون جيلدر (تعادل مليارات الدولارات بأسعار اليوم)، والتي لولاها لما تمكنت الولايات المتحدة من البقاء اقتصاديًا، وعلاوة على ذلك، واصل المهاجرون الهولنديون وأحفادهم في أمريكا مشاريعهم المالية.

– وقّع 24 سمسارًا للأوراق المالية اتفاقية “بوتونوود” في وول ستريت عام 1792، والتي أسست ما أصبح فيما بعد بورصة نيويورك.

ناسداك: أمستردام القرن الـ 21

– من نواحٍ عديدة، يُشابه الدور الذي لعبته أمستردام في القرن السابع عشر دور “ناسداك” في القرن الحادي والعشرين، حيث كانت أمستردام بيئةً حرةً نسبيًا، داعمةً للابتكار، تُموّل رحلاتٍ بحريةٍ إلى أقاصي الأرض، وهو نوعٌ من المشاريع عالية المخاطر وعالية المكافآت في عصرها.

– يُعرف “ناسداك” في عصرنا بإدراج شركات التكنولوجيا المتطورة، وهي مشاريع تستكشف آفاقًا جديدةً تنطوي على مخاطر كبيرة، ولكنها قد تُحقق مكافآتٍ هائلة، وكلاهما كان محركًا للابتكار، مدفوعًا برأس مالٍ مُضاربٍ وتسامحٍ مع عدم اليقين.

– لم تكن شركة الهند الشرقية الهولندية مجرد شركة عادية؛ بل كانت أكبر شركة تجارية شهدها العالم، وفي أوجها، كانت تمتلك أكثر من 150 سفينة تجارية، و50 ألف موظف (بما في ذلك جيش خاص)، وحققت أرباحًا فاقت إيرادات بعض الدول.

– بحسب بعض التقديرات، كانت القيمة السوقية لشركة الهند الشرقية الهولندية في ذروتها عام 1637 تعادل ما يقرب من 8 تريليونات دولار اليوم.

– لكن لا نغفل الجانب المظلم للشركة المتمثل في “الإدارة الاستعمارية”، حيث أدارت فعليًا المستعمرات، وامتلكت سلطات شبه حكومية، مثل توقيع المعاهدات، وسكّ العملات، والإشراف على شؤون العدل، وخوض الحروب في آسيا، وكانت تتحكم في نجاح أو فشل الحكام الآسيويين المحليين.

– بينما لا تشن الشركات الحديثة حروبًا، فإن بعضها يعمل على نطاقٍ جيوسياسي مماثل: فكّر في كيفية تأثير شركات التكنولوجيا متعددة الجنسيات على اللوائح الدولية وكيف تؤثر على الصناعات.

– يمكن القول إن “ناسداك” هي الوريث الروحي لبورصة أمستردام في تعزيز “سوق الابتكار”، فقد وفرت كلتاهما تنظيمًا خفيفًا نسبيًا وانفتاحًا على المشاريع الجديدة المحفوفة بالمخاطر.

– في سجلات التاريخ الاقتصادي، تبرز بورصة أمستردام كقصة سينمائية، ودراما ملحمية عن أصحاب الرؤى في مواجهة الطغاة، والابتكار في مواجهة الجمود، والإيمان الجماعي في مواجهة القوة الغاشمة.

– في المرة القادمة التي يُعجب فيها المرء بشاشات التداول في بورصة نيويورك أو مدينة لندن، قد يتذكر أن مجموعة من التجار الهولنديين المغامرين في ساحة دام هم من بدأوا هذه الحركة قبل قرون، وأطلقوا العنان للرأسمالية الحديثة.

المصادر: أرقام- ورقة بعنوان “The world’s first stock exchange” لجامعة أمستردام- كتاب “The World’s First Stock Exchange”- خطابات “جون آدامز”- إنفستوبيديا- موقع وولدز فيرست ستوك إكستشنج- آنهيرد- موقع تاريخ البورصة الهولندية- داتش ريفيو- متحف أستراليا الغربية- شات جي بي تي

اقرأ الخبر من المصدر

مختارات التحليل والأخبار الأقتصادية

أخر الأخبار

- Advertisement -spot_img

‏دروس التاريخ .. كيف ولدت فكرة أول في بورصة؟ وكيف شكلت الرأسمالية العالمية؟

الكاتب:

{pubdate}

تحت أبراج قاعة مدينة أمستردام، في صباح ربيعي بارد من عام 1602، يتجمع حشد من التجار الهولنديين بقبعات وياقات يتداولون قصاصات الورق وسط إلحاح شديد، لكن هذه ليست أوراقًا عادية؛ إنها شهادات أسهم لشركة الهند الشرقية الهولندية، والتي صدرت للتو في أول طرح عام أولي في التاريخ.

وسط نداءات البائعين وصرير عجلات العربات، تدون أقلام الريش المعاملات في دفاتر الحسابات، حيث صانع أشرعة تحول إلى مستثمر يستبدل إيصالاته في الشركة بحقيبة من الجيلدر، مستفيدًا من رحلة ساهم في تمويلها، وبجواره تاجر جبن يتفاوض لشراء تلك الحصة، متطلعًا إلى تحقيق أرباح من تجارة التوابل.

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

هذه السوق المفتوحة للأفكار ورأس المال تمثل مشهدًا ثوريًا: فالثروة والسلطة تنتقلان ليس بالسيف أو المرسوم الملكي، بل بالأقلام ودفاتر الأسهم، في هذا المشهد النابض بالحياة، البعيد كل البعد عن بهاء القصور، انبثق عصر رأس المال الحديث.

قليلون أدركوا هذا في ذلك الوقت، لكن هذه الخربشات في دفاتر الحسابات تُنذر بتحول عميق من هيمنة النبلاء والأمراء إلى حكم الأسواق والمساهمين، حيث لن يعود العالم كما كان أبدًا.. ما حدث في شوارع أمستردام عام 1602 ليس أقل من ثورة مالية على النظام القديم.

هؤلاء المواطنون الهولنديون، وكثير منهم من ذوي الأصول المتواضعة، يجرؤون على تخيل أن المبادرة والاستثمار – وليس الامتيازات الأرستقراطية – قادران على دفع عجلة الرخاء.. فكيف غير هؤلاء أوروبا والعالم؟

أول ثورة برجوازية في التاريخ

– كانت أمستردام في القرن السابع عشر بمثابة جمهورية تجارية في عصر الممالك المطلقة، وعلى عكس الممالك المركزية في فرنسا أو إسبانيا، لم يكن لها ملك، بل كان يحكمها رجال دولة تجار وحكام مدن، واتسمت السلطة في هولندا عمومًا باللامركزية الشديدة.

– لم يكن هذا الهيكل السياسي مصادفة، فقد انبثق من بوتقة الثورة الهولندية (1568-1648)، وهي حرب استمرت 80 عامًا، والتي أشاد بها المؤرخون باعتبارها أول ثورة برجوازية في التاريخ، وكانت متعلقة بالاقتصاد والحقوق المدنية بقدر ما كانت متعلقة بالاضطهاد الديني.

– اتحد التجار والنبلاء الهولنديون لمقاومة محاولات ملك إسبانيا “فيليب الثاني” لخنق تجارتهم وحرياتهم من خلال الضرائب الإقطاعية والمراسيم الاستبدادية، وبذلك، أسسوا نوعًا جديدًا من الدولة “كومنولث تجاري” بُني لخدمة الرخاء بدلًا من العظمة الملكية.

– أشاد “آدم سميث” بعد قرن من الزمان بالجمهورية الهولندية باعتبارها النموذج الأمثل “للمجتمع التجاري”، وأثنى على التزامها العالمي بالتجارة الحرة كمصدر ثروتها الهائلة.

– أنشأ الهولنديون نظامًا ماليًا تفوق على أنظمة الملكية الأوروبية، ففي حين أرهقت إسبانيا وفرنسا خزائنهما بالحروب وتخلفتا كثيرًا عن سداد القروض، فرض الهولنديون ضرائب فعالة، وأصدروا سندات على نطاق واسع، ووفوا بديونهم.

– أصبحت أمستردام نقطة جذب للمواهب ورؤوس الأموال من جميع أنحاء أوروبا وجلب هذا التدفق أفكارًا ومهارات جديدة، ويمكن القول إنها أصبحت القلب النابض للتجارة العالمية، مع ميلاد مؤسسات من شأنها إعادة تعريف كيفية توليد الثروة ومن يحق له استخدامها.

ميلاد أول بورصة في العالم

– في عام 1602، بينما كانت الحرب لا تزال مستعرة مع إسبانيا، اتخذت الجمهورية الهولندية خطوة جريئة لتمويل طموحاتها البحرية، وأنشأت شركة الهند الشرقية الهولندية، كشركة مساهمة.

– لم تكن هذه شركة عادية، فلأول مرة في التاريخ، طرحت شركة الهند الشرقية الهولندية أسهمًا عامة للجمهور، داعيةً كل من يملك المال (من البرجوازيين الأثرياء إلى الحرفيين المهرة) للاستثمار في رحلات إلى جزر الهند الشرقية، وكان رد الفعل استثنائيًا.

– اكتتب رجال ونساء من جميع أنحاء المقاطعات المتحدة برأس مال الشركة، مما جعلها أول شركة مملوكة للقطاع العام في العالم (أي أن الهولنديين ابتكروا الطرح العام الأولي)، وجمع إصدار أسهم شركة الهند الشرقية الهولندية عام 1602 أكثر من 6 ملايين جيلدر، وهو مبلغ مذهل في ذلك الوقت.

– كان كل سهم يُخوّل مالكه الحصول على جزء من أرباح التجارة الآسيوية، لا سيما التوابل والحرير وغيرها من الكماليات، لكن العبقرية لم تكمن فقط في تجميع رأس المال لتأسيس الشركة، بل في جعل تلك الأسهم قابلة للتحويل بحرية.

– في السابق، كان على المستثمرين في رحلات التجارة الانتظار لسنوات حتى عودة الرحلة وتقسيم الأرباح (أو احتساب الخسائر)، لكن الشركة الجديدة غيرت قواعد اللعبة، حيث نصّ ميثاقها على أن الأسهم دائمة ويمكن بيعها لأطراف ثالثة إذا رغب المستثمر في تسييلها مبكرًا.

– أطلق هذا البند البسيط في ظاهره ثورة، وعلى الفور تقريبًا، انبثقت سوق ثانوية غير رسمية لأسهم شركة الهند الشرقية الهولندية في شوارع أمستردام، قبل تأسيس مبنى للبورصة والذي أرسى قواعد وهيكل تنظيمي، بما في ذلك موقع مركزي للتداول ومواعيد عمل محددة.

ملهمة الغرب: مهد النظام الجديد

– لم يتمتع المستثمرون الإنجليز في البداية بنفس السوق الثانوية النابضة بالحياة، وافتقرت إنجلترا إلى المؤسسات المستقرة التي أسسها الهولنديون، وكان ملوكها في كثير من الأحيان معادين للتجارب المالية التي هددت سيطرتهم، لكن تغير كل ذلك بعد الثورة المجيدة عام 1688.

– حينذاك، نُصب الحاكم العام الهولندي “ويليام أوف أورانج” ملكًا لإنجلترا تحت اسم “ويليام الثالث”، فجلب معه مستشارين ماليين هولنديين، ولاحقًا استعانت إنجلترا بالأدوات الهولندية وأطلقت ثورتها المالية الخاصة.

– تأسس بنك إنجلترا عام 1694، وكانت فكرته مستوحاة بوضوح من نجاح بنك أمستردام في تثبيت العملة وتمويل الدين الحكومي، وتحركت لندن لتوحيد وتمويل الدين الوطني، مما أدى إلى خلق سوق نشطة للسندات الحكومية، ثم طورت سوقًا لتداول الأسهم مشابهة بشكل غريب لنظيرتها في أمستردام، والتي تجاوزتها لاحقًا لتصبح المركز المالي الرائد.

– على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي كانت مدينة نيو أمستردام (نيويورك لاحقًا)، هي مركز تجاري هولندي أنشأته شركة الهند الغربية الهولندية عام 1625، وورغم أنها كانت صغيرة نسبيًا وسقطت في يد الإنجليز عام 1664، إلا أنها تركت بصمات لا تُمحى.

– فمثلًا اشتق اسم “وول ستريت” من الجدار الذي بناه الهولنديون على طول الحافة الشمالية لنيو أمستردام (لصد غارات الأمريكيين الأصليين والبريطانيين)، ومصطلحات مثل “boss” (رئيس)، جاءت من كلمة “baas”، وغيرها في المعجم الأمريكي تُلمّح إلى التأثير الهولندي المبكر.

– خلال الثورة الأمريكية، عندما كانت الولايات المتحدة الناشئة في أمسّ الحاجة إلى الأموال، وتحديدًا عام 1782، تفاوض “جون آدامز” على قرض بقيمة 5 ملايين جيلدر بفائدة 5%، ما كان بمثابة شريان حياة ساعد في منع إفلاس أمريكا واستقرار ماليتها.

– بين عامي 1782 و1794، قدم الهولنديون عدة قروض بلغ مجموعها ما يقرب من 30 مليون جيلدر (تعادل مليارات الدولارات بأسعار اليوم)، والتي لولاها لما تمكنت الولايات المتحدة من البقاء اقتصاديًا، وعلاوة على ذلك، واصل المهاجرون الهولنديون وأحفادهم في أمريكا مشاريعهم المالية.

– وقّع 24 سمسارًا للأوراق المالية اتفاقية “بوتونوود” في وول ستريت عام 1792، والتي أسست ما أصبح فيما بعد بورصة نيويورك.

ناسداك: أمستردام القرن الـ 21

– من نواحٍ عديدة، يُشابه الدور الذي لعبته أمستردام في القرن السابع عشر دور “ناسداك” في القرن الحادي والعشرين، حيث كانت أمستردام بيئةً حرةً نسبيًا، داعمةً للابتكار، تُموّل رحلاتٍ بحريةٍ إلى أقاصي الأرض، وهو نوعٌ من المشاريع عالية المخاطر وعالية المكافآت في عصرها.

– يُعرف “ناسداك” في عصرنا بإدراج شركات التكنولوجيا المتطورة، وهي مشاريع تستكشف آفاقًا جديدةً تنطوي على مخاطر كبيرة، ولكنها قد تُحقق مكافآتٍ هائلة، وكلاهما كان محركًا للابتكار، مدفوعًا برأس مالٍ مُضاربٍ وتسامحٍ مع عدم اليقين.

– لم تكن شركة الهند الشرقية الهولندية مجرد شركة عادية؛ بل كانت أكبر شركة تجارية شهدها العالم، وفي أوجها، كانت تمتلك أكثر من 150 سفينة تجارية، و50 ألف موظف (بما في ذلك جيش خاص)، وحققت أرباحًا فاقت إيرادات بعض الدول.

– بحسب بعض التقديرات، كانت القيمة السوقية لشركة الهند الشرقية الهولندية في ذروتها عام 1637 تعادل ما يقرب من 8 تريليونات دولار اليوم.

– لكن لا نغفل الجانب المظلم للشركة المتمثل في “الإدارة الاستعمارية”، حيث أدارت فعليًا المستعمرات، وامتلكت سلطات شبه حكومية، مثل توقيع المعاهدات، وسكّ العملات، والإشراف على شؤون العدل، وخوض الحروب في آسيا، وكانت تتحكم في نجاح أو فشل الحكام الآسيويين المحليين.

– بينما لا تشن الشركات الحديثة حروبًا، فإن بعضها يعمل على نطاقٍ جيوسياسي مماثل: فكّر في كيفية تأثير شركات التكنولوجيا متعددة الجنسيات على اللوائح الدولية وكيف تؤثر على الصناعات.

– يمكن القول إن “ناسداك” هي الوريث الروحي لبورصة أمستردام في تعزيز “سوق الابتكار”، فقد وفرت كلتاهما تنظيمًا خفيفًا نسبيًا وانفتاحًا على المشاريع الجديدة المحفوفة بالمخاطر.

– في سجلات التاريخ الاقتصادي، تبرز بورصة أمستردام كقصة سينمائية، ودراما ملحمية عن أصحاب الرؤى في مواجهة الطغاة، والابتكار في مواجهة الجمود، والإيمان الجماعي في مواجهة القوة الغاشمة.

– في المرة القادمة التي يُعجب فيها المرء بشاشات التداول في بورصة نيويورك أو مدينة لندن، قد يتذكر أن مجموعة من التجار الهولنديين المغامرين في ساحة دام هم من بدأوا هذه الحركة قبل قرون، وأطلقوا العنان للرأسمالية الحديثة.

المصادر: أرقام- ورقة بعنوان “The world’s first stock exchange” لجامعة أمستردام- كتاب “The World’s First Stock Exchange”- خطابات “جون آدامز”- إنفستوبيديا- موقع وولدز فيرست ستوك إكستشنج- آنهيرد- موقع تاريخ البورصة الهولندية- داتش ريفيو- متحف أستراليا الغربية- شات جي بي تي

اقرأ الخبر من المصدر

Must Read

- Advertisement -spot_img

Editor Picks

هل تحتاج مساعدة لاختيار الباقة الأنسب لك؟