“الحدس في التداول مثل الموسيقى، فكلاهما يحتاج إلى تدريب طويل ليكون سليمًا”.. هذا ما يؤكده “مارتن شوارتز” أحد أشهر المتداولين في السوق الأمريكي.
و”شوارتز” نفسه دليل على هذا الأمر، حيث بدأ التداول لأول مرة خلال مسابقة أقيمت 1982 لاختيار أفضل المتداولين، ومن بين 74 حل “شوارتز” في المركز الثالث، وعلى الرغم من أن هذا يشكل نجاحًا قياسًا بأنه كان حديث العهد بالتداول، وصغير السن أيضًا إلا أنه اعتبر هذا الأمر فشلا.
ليس تنجيمًا
وفي مسابقة العام التالي شارك “شوارتز” في المسابقة أيضا، وارتفع عدد المشاركين إلى 133 متسابقًا، وتراجع ترتيب شوارتز من الثالث إلى السادس، غير أن نسبة نمو رأسماله المستخدم في المسابقة ارتفعت من 30% في عام 1982 إلى 69% في عام 1983، لكنه ظل بعيدًا عمن فاز بالمسابقة بنسبة نمو 388%.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
وفي العام الثالث لمشاركته، تمكن “شوارتز” أخيرًا من الفوز بمسابقة التداول وحيازة المركز الأول، حيث تمكن من تنمية رأسماله البالغ 482 ألف دولار وقتها إلى 1.2 مليون دولار خلال 4 أشهر بنسبة نمو 254% بما لفت النظر لقدراته الاستثنائية على التحليل المعمق واستخدام “الحدس” بشكل صحيح.
وفي هذا الإطار يقول “شوارتز” إن استخدامه للحدس لم يكن ناجماً من “التنجيم”، ولكنه يقوم بدراسة متزامنة للقطاعات والشركات التي يسعى للاستثمار وضخ أمواله فيها، وقبل اتخاذ قراره الاستثماري النهائي بشكل “عقلاني تام” قد يجد أمامه خيارات متقاربة في احتمالات النجاح، وهنا يتدخل الحدس بناء على الخبرات السابقة كي يقرر لأي من الخيارات التي درسها جميعًا بالتفصيل ينحاز.
وهنا يجب الإشارة إلى أن “الحدس” من حيث التعريف هو نوع من المعرفة التي لا يمكن تفسيرها، وبالتالي إذا كانت مستندة إلى علم قوي فسوف تكون نتيجتها غالبًا جيدة، والعكس صحيح إذا كان هناك افتقار لمثل هذا العلم.
عشرات العوامل أم عامل واحد؟
ولذلك يؤكد شوارتز ما يؤكده كثيرون من كبار المتداولين غيره، أنه لن يمكنك النجاح في كل صفقة تجريها في سوق الأسهم، لأنه كما يقال عن حق “الخسارة جزء من اللعبة”، ولكنه يجب التعلم في حالة المكسب، ويجب -وبدرجة أكبر- التعلم من الخسارة، لتلافي تكرار الأسباب التي أدت إليها.
والشاهد أن المتداولين الناجحين يحللون عشرات العوامل (تشير بعض الدراسات إلى أنها لا تقل عن 12 عاملًا أساسيًا وضعفها من العوامل المؤثرة)، وبذلك يتلافون تأثير الحدس الذي يتولد من الاعتقاد بهيمنة عامل واحد على ما عداه من العوامل.
وربما يتولد هذا الاعتقاد لرفض مستثمر ما شراء أسهم شركة بسبب ديونها المرتفعة، لينخفض سعرها لاحقًا بالفعل، إلا أنه يُحدِث أثرًا سلبيًا في أسلوب تفكير المتداول بتركيزه على عنصر الديون دون ما عداه، ليهمل عناصر أخرى مهمة في التحليل الأساسي للشركة وللقطاع والاقتصاد الذي تنشط به.
وفي هذا الإطار، كشفت دراسة أن أكثر من 80٪ من المُتداولين يعتقدون أن عاملًا واحدًا فقط، مثل الحظ أو نسب النمو أو الرواج أو الإنفاق الاستهلاكي أو شكل المنحنى في السوق أو قوائم الشركة المالية أو حتى نصيحة من مُحلل، هو المسؤول عن الربحية ونمو السهم، وباتالي يكونون “حدسهم” بناء على ذلك.
كما يخلط كثيرون بين حدسهم و”مخاوفهم” أو “أمانيهم”، حيث إن 40% من المتداولين على الأقل يعتقدون أن الأسواق ستوافق رغابتهم أو أمانيهم ويشترون في السوق وفقًا لهذا، وهنا ليس الأمر اعتمادًا على الحدس المطلوب، لكنه تمني مصادفة الحظ للمتداول وهو ما لا ينتهي بمكاسب في أغلب الحالات.
شقّا المخ
ويدعو بعض المراقبين والكتاب كثيرًا إلى الاعتماد على الحدس في التداول، وأن يثق المتداول في غريزته، ومن أبرز دعاة ذلك الكاتب الشهير “كورتيس فيث” الذي صمم نموذجًا يقوم على التجارة اللحظية وترقب لحظات الانخفاض والارتفاع في السوق كي يحقق المتداول أرباحًا قياسية.
ويعرف النموذج الذي وضعه “كورتيس فيث” باسم نموذج السلاحف وهو يقوم على تتبع الاتجاهات واللعب بالأساس على المستويات القياسية صعودًا وهبوطًا في الأسواق، وهو نموذج للمضاربة وليس للاستثمار الطويل.
وعلى الرغم من ذلك فإن “فيث” يشير في كتابه “التجارة باستخدام الحدس” إلى أن الحدس ليس مجرد شعور عشوائي، بل هو شكل من أشكال المعالجة السريعة للمعلومات والخبرات المتراكمة، وأنه يمكن أن يوفر الحدس رؤى قيمة لا يمكن للتحليل المنطقي وحده اكتشافها.
ويدعو “فيث” إلى أهمية التوازن بين شقي المخ، حيث يقدم الكتاب نموذجًا للدماغ الأيمن وهو القسم الحدسي والإبداعي والدماغ الأيسر الذي يقوم على التحليل والمنطق، ويشدد على ضرورة تحقيق توازن بينهما في عملية التداول، لأن الاعتماد المفرط على أحدهما دون الآخر يمكن أن يؤدي إلى قرارات خاطئة.
ويشدد الكتاب على عدم الاعتماد الأعمى على الحدس، والتمييز بين متى يكون الحدس جديرًا بالثقة، بناءً على الخبرة والمعرفة الضمنية، ومتى يكون مجرد استجابة عاطفية يجب تجاهلها.
ويشير “فيث” إلى أن الحدس يخضع لتدريب من خلال القيام بعمليات تداول وهمية -أي باستخدام بعض التطبيقات مثلًا أو حتى بافتراض المتداول شراء سهم بقيمة معينة ثم بيعه بقيمة أخرى- لفترة من أجل متابعة بعض الأسهم بشكل دقيق وتقلباتها وبذلك يمكن للمتداول القيام بعمليات حقيقية أكثر كفاءة بناء على تدريباته السابقة.
ويشدد الكتاب على أن الحدس يجب أن يكون مكملاً للتحليل الفني والأساسي وإدارة المخاطر، وليس بديلاً عنه، لا سيما أن الحدس وحده غالبًا ما يفضي إلى نتائج سيئة نظرًا لتأثره بكافة الانحيازات المعرفية، وبذلك تلعب الخبرة دورًا حاسمًا في تشكيل الحدس “المفيد”.
أداة إضافية أم تهديد للمتداول
ومن ضمن المسائل الرئيسية في تكوين الحدس التأكد من إقصاء المعلومات غير الصحيحة عن عملية اتخاذ القرار، حيث كشفت دراسة جامعية أن أكثر من 30% من الناس لا يستطيعون إقصاء معلومات تم إخبارهم بأنها غير صحيحة من عملية اتخاذ القرار، أي أنه حتى المعلومات المغلوطة تؤثر في تشكيل توجهاتهم.
وفي عصر وسائل التواصل الاجتماعي يزداد تأثير هذه الظاهرة، في ظل العديد من المعلومات بلا مصدر، ووسائل التزوير “المتقن”، وتداول العديد من الأخبار الخاطئة على نطاق واسع بشكل “يوحي” بصدقها، ويصبح تشكيل الحدس السليم أصعب ويحتاج لجهد أكبر في “الفرز”
يأتي هذا في ظل ما تكشفه الدراسات عن استقاء أكثر من 54% من الناس لمعلوماتهم من وسائل التواصل الاجتماعي -تصل هذه النسبة إلى 80% في بعض الحالات- بما يجعل الانفصال عن هذا التيار أمرًا في غاية الصعوبة، لا سيما في ظل الاستخدام “الطبيعي” والمنتظم لوسائل التواصل الاجتماعي لكل الناس بما فيهم المتداولون.
والأزمة الحقيقية في الوقت المعاصر أن الاعتماد على الحدس يستلزم استقرار الممارسات الاقتصادية والتجارية لفترات طويلة، بما يؤطر فهمًا راسخًا “بالسليقة” لكيفية تحرك الأسواق، ولكن مع الاضطرابات العنيفة صعودًا وهبوطًا والتقلب الاقتصادي وسيادة عدم اليقين يصبح الاعتماد على الحدس أمرًا محفوفًا بالمخاطر.
ولذلك نعود إلى مقولة “شوارتز” حول الحدس، فبدون تدريب جيد، وعلم راسخ، سيبقى الحدس عبارة عن مجرد أمنيات أو حتى أوهام، بينما مع المعارف الواسعة والاطلاع المناسب يتحول الحدس إلى أداة إضافية تمكّن المتداول من تحقيق النجاح في السوق.
المصادر: أرقام- كتاب “Trading from your Gut: How to Use Right Brain Instinct Left Brain Smarts to Become a Master Trader”- كتاب ” Pit Bull: Lessons from Wall Street’s Champion Day Trade”- فوربس- إيكونوميست