هل نشتري الجودة أم الاسم؟ الحقيقة وراء أسعار السلع الفاخرة
الكاتب:
{pubdate}
في إحدى أمسيات مدريد، كانت صوفيا، وهي شابة في الثلاثين من عمرها وتعمل في مجال التسويق، أرادت الاحتفال بحصولها على أعلى مبلغ عمولة لها في مسيرتها المهنية جراء إتمام الصفقة الأخيرة لشركتها.
لذا قررت أن تكافئ نفسها بشيء مميز يعكس هذا النجاح، وذهبت إلى متجر “شانيل” في حي سالامانكا الراقي بالعاصمة الإسبانية، واشترت حقيبة “فلاب” الكلاسيكية بسعر تجاوز 10 آلاف دولار أمريكي، أي نحو نصف عمولتها التي حصلت عليها.
بعد أسابيع قليلة، وبينما كانت تتصفح الإنترنت، صادفت تقريرًا يقارن بين تلك الحقيبة الفاخرة وحقيبة تشبهها في التصميم لكنها مصنوعة يدويًا في ورشة إيطالية صغيرة.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
وتستخدم تلك الحقيبة المصنوعة في تلك الورشة نفس نوع الجلد، وتبدو أفضل من حيث المتانة والخياطة، ومع ذلك لا يتجاوز سعرها 900 دولار.
هنا أُصيبت صوفيا بالدهشة وتساءلت هل دفعت كل هذا المبلغ من أجل امتلاك حقيبة من إحدى الماركات الفاخرة فقط، بينما جودة الحقيبة لا تستحق كل تلك الأموال.
هذا التساؤل لم تعد صوفيا وحدها من تطرحه، بل صار سؤالًا عالميًا في عصر أصبح فيه الاسم في عالم السلع الفاخرة أحيانًا أغلى من المضمون، فمع تنامي سوق السلع الفاخرة عالميًا، يُقبل الملايين من الناس على شراء علامات تجارية شهيرة.
من حقيبة “هيرميس” التي تُباع بـ 5000 دولار، إلى حذاء رياضي فاخر يتجاوز 3000 دولار، تزدهر صناعة الرفاهية بسبب الهالة المحيطة بالعلامة التجارية، وسط رغبة في التميز، وإظهار المكانة الاجتماعية، أو حتى الشعور بالانتماء لطبقة معينة من الذوق الرفيع.
وأصبحت هذه المعضلة أكثر إلحاحًا في ظل توقعات بوصول سوق السلع الفاخرة العالمي إلى 430 مليار دولار بحلول عام 2030، بحسب تقرير “باين آند كومباني”.
علاوة الفخامة
تشير بيانات شركة “ماكنزي” إلى أن متوسط هامش الربح في السلع الفاخرة يتضاعف ليصل إلى ما بين 10 و12 مرة مقارنة بتكلفة الإنتاج.
وفي كثير من الأحيان، تمثل المواد الخام والأيدي العاملة أقل من 20% من سعر التجزئة، أما الباقي، فيُصرف على الإعلان والترويج ورعاية المشاهير، والحفاظ على صورة “الندرة والتميّز” التي تحيط بهذه المنتجات.
فبحسب تحليل لصحيفة وول ستريت جورنال، تبلغ تكلفة إنتاج حقيبة “ديور” نحو 650 دولارًا، في حين تُباع في المتاجر بسعر يصل إلى 2800 دولار، مما يعكس هامشًا تجاريًا يتجاوز أربعة أضعاف التكلفة الأصلية.
أما حقيبة “شانيل فلاب” الكلاسيكية، والتي تُصنع من جلد العجل الفاخر، فتُقدّر تكلفة إنتاجها (بما يشمل المواد الخام والعمل اليدوي) بنحو 500 دولار فقط، بينما يتجاوز سعر بيعها في الأسواق 10.2 ألف دولار، أي زيادة بنحو 1900% عن التكلفة الأصلية.
هذه الهوة بين الكلفة والسعر النهائي تُعزى بشكل أساسي إلى ما يُعرف بـ”علاوة العلامة التجارية”.
ومع ذلك، تظل هذه الحقيبة واحدة من أكثر السلع طلبًا حول العالم، ليس فقط بسبب المواد أو التصنيع، بل بفعل الهيبة التي ترافقها، وقيمتها العالية عند إعادة البيع، والولاء المتجذر للعلامة التجارية.
الجودة مقابل العلامة التجارية
صحيح أن العديد من العلامات الفاخرة تفتخر بحرفية صناعتها، لكن بعض الدراسات الحديثة أكدت أن بعض المنتجات المتوسطة تقدم جودة مماثلة دون السعر الباهظ.
ففي تجربة مقارنة أجرتها مؤسسة “كونسيومر ريبورتس” عام 2024 على أحذية رياضية جلدية، حصل حذاء “بالنسياغا” (بسعر 600 دولار أمريكي) على تقييم أقل من نظيريه “كول هان” (120 دولارًا) و”أديداس” (90 دولارًا).
وتفوق حذاء “أديداس” في راحة الاستخدام (8.5 من 10)، بينما سجل “كول هان” أعلى نقاط في التحمل (8.9)، في حين جاء “بالنسياغا” أخيرًا في كلا التصنيفين، وهو ما يعني أن السعر المرتفع لا يعني دائمًا جودة أفضل.
وهو ما يشير إلى أن أسعار السلع الفاخرة ليست نتيجة حسابات تكلفة فقط، بل ترتبط بعوامل نفسية واجتماعية فيما يُعرف بمصطلح “تأثير فيبلن”.
وسُمّي هذا المصطلح على اسم الاقتصادي وعالم الاجتماع الأمريكي “ثورستين فيبلن”، الذي كتب في أواخر القرن التاسع عشر عن “الاستهلاك التظاهري”، أي شراء السلع لا لاستخدامها، بل لإظهار الثروة والنجاح أمام الآخرين.
ويؤكد تقرير صادر عن “ديلويت” في 2023 أن 64% من مستهلكي الجيل زد يشترون السلع الفاخرة لأسباب اجتماعية بحتة، وليس بالضرورة بسبب الجودة.
وقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا في تضخيم هذا التأثير، فمنصات مثل إنستجرام وتيك توك باتت محركات رئيسية للرغبة في اقتناء السلع الفاخرة، حيث تروّج وسوم تشجع على شراء تلك الماركات.
وتدعم وجهة النظر تلك التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة في يونيو الماضي، حينما هددت واشنطن حينها بفرض رسوم جمركية إضافية على واردات فاخرة من الصين تصل إلى 100%.
وانتشرت على منصات التواصل الصينية – خاصة “ويبو” و”دويين” – مئات الفيديوهات لمواطنين صينيين يستعرضون فيها التكلفة الفعلية لبعض السلع الفاخرة مقارنة بأسعارها في الولايات المتحدة.
وفي أحد المقاطع الأكثر تداولًا في الصين جرى استعراض معطف من علامة أمريكية فاخرة يُباع في شنغهاي بـ1200 دولار أمريكي ، بينما لا تتجاوز تكلفة تصنيعه 150 دولارًا بحسب الفيديو.
السعر يعكس أكثر من المنتج
في المقابل تؤكد الشركات الكبرى في هذا القطاع أن هذه الأسعار تعكس مزيجًا معقّدًا من الجودة الحرفية، والتراث العريق، والندرة المقصودة، وليس فقط تكلفة الإنتاج.
فوفقًا لما تؤكده مجموعة إل في إم إتش المالكة لعلامات مثل لويس فويتون وديور، فإن جزءًا كبيرًا من قيمة المنتج الفاخر يأتي من العمل اليدوي الدقيق الذي يُنفذ في ورش متخصصة داخل أوروبا، حيث يستغرق صنع بعض الحقائب أو الساعات أيامًا أو حتى أسابيع.
كما أشار “برنار أرنو”، رئيس المجموعة، في مقابلات سابقة مع فايننشال تايمز إلى أن “الفخامة الحقيقية لا تتعلق بالكمال الصناعي، بل بقصص المنتج، وتاريخه، وندرة صناعته”.
وفي الإطار نفسه أوضحت “ميريام باريت”، مديرة التطوير في دار هيرميس، أن الحقائب الجلدية مثل “بيركين” و”كيلي” تُصنع يدويًا بالكامل، من قبل حرفي واحد، استنادًا إلى تدريبات تستغرق أحيانًا أكثر من 3 سنوات، مما يجعل كل قطعة “فريدة لا تتكرر”.
هذا، إلى جانب استخدام مواد أولية نادرة مثل جلد التمساح أو العجل الفاخر، هو ما يجعل السعر -وفقًا لها- “انعكاسًا لرحلة الإنتاج”.
حتى شركات مثل “رولكس” و”باتيك فيليب” في عالم الساعات تؤكد أن قيمة الساعة لا تُقاس فقط بمكوناتها المادية، بل أيضًا بالضبط الميكانيكي المُتقن ومحدودية الإنتاج أي الندرة، وهو ما يفسّر لماذا تحتفظ بعض الساعات بقيمتها أو حتى ترتفع مع الوقت في سوق إعادة البيع.
استثناءات حقيقية
رغم أن معظم السلع الفاخرة تعتمد على التسويق والصورة الذهنية أكثر من الجودة الفعلية، إلا أن هناك استثناءات محدودة تجمع بين الحرفية العالية والسمعة العالمية.
فهناك بعض الساعات الفاخرة، على سبيل المثال، تُنتج على مدار أشهر عدة، وتُعرف بدقتها العالية وقيمتها التاريخية، حيث تزداد قيمتها في سوق إعادة البيع بمرور الوقت نظرًا لندرتها وجودتها.
كذلك، لا تزال بعض الحرف الجلدية الراقية تُصنع يدويًا وفق تقاليد عريقة تعود لعقود، خصوصًا في مجال السروج والحقائب المصنوعة من الجلد الطبيعي الفاخر.
وفي هذه الحالات، يكون السعر المرتفع مبررًا إلى حد ما، لكونه يعكس جهدًا حرفيًا دقيقًا ومواد ذات جودة نادرة، ومع ذلك، تظل هذه النماذج استثناءً في سوق تهيمن عليه “ندرة مصطنعة” ومظاهر شكلية تتفوق أحيانًا على القيمة العملية للمنتج.
الموضة السريعة تكسر القواعد
في المقابل، تبرز علامات مثل “زارا” و”إيفرلين” كأمثلة على العلامات التي تقدم قطعًا بسيطة بجودة مقبولة وسعر أقل بكثير.
ومع تزايد وعي المستهلكين، خاصة بين جيل الشباب، تزداد شعبية حركة “الرفاهية الهادئة” التي تفضل الجودة الحقيقية والتصميم الخالد على الشعارات البراقة والبذخ الزائف.
وفي زمنٍ صارت فيه الفخامة تُقاس بالشعار أكثر من الصنعة، لم يعد سؤال “هل نشتري الجودة أم الاسم؟” ترفًا فكريًا، بل ضرورة استهلاكية.
ففي العديد من الأحيان لم تعد الأسعار تعكس الجهد أو المواد المستخدمة، بل تعكس مكانتك الاجتماعية، ومع ذلك، لا يزال هناك من يفتش عن الجمال في دقة الغُرز، لا في عدد المتابعين، ومن يُقدِّر التصميم الصادق على الضجيج البصري.
فالفخامة الحقيقية لا تحتاج إلى صخب.. تحتاج فقط إلى عين خبيرة تعرف أن الجودة لا تحمل شعارًا، بل تترك أثرًا.
المصادر: أرقام- شركة ماكينزي- ديلويت- فايننشال تايمز، بلومبرج- وول ستريت جورنال- مجلة فوغ بيزنس